بحث

الأب بازوليني: السير في طريق معرفة الله.. على الكنيسة أن تعزز روح اللقاء الأب بازوليني: السير في طريق معرفة الله.. على الكنيسة أن تعزز روح اللقاء  (@VATICAN MEDIA)

الأب بازوليني: السير في طريق معرفة الله.. على الكنيسة أن تعزز روح اللقاء

"شموليّة الخلاص: رجاءٌ بلا شروط"؛ كان هذا هو موضوع التأمل الثالث لزمن المجيء الذي قدّمه واعظ القصر الرسولي صباح اليوم الجمعة، في قاعة بولس السادس بحضور قداسة البابا. وقد ركز الأب بازوليني في حديثه على موقف "المجوس" الذين تجرأوا بشجاعة وانفتحوا على المجهول، مشدداً على ضرورة مراجعة "عاداتنا التبشيرية"، و"مساعدة الآخر على التعرُّف على النور الكامن فيه"، و"حفظ المسيح في قلوبنا لنقدمه للجميع"، مؤكداً أن "نور الميلاد الحقيقي يضيء لكل إنسان".

إنَّ التحدي الذي يدعونا إليه عيد الميلاد واليوبيل هو الاعتراف بمجيء يسوع المسيح "كنورٍ نقبله، وننشره، ونقدمه للعالم" هذا ما أكده الأب روبرتو بازوليني واعظ القصر الرسولي في مستهل تأمله الثالث لزمن المجيء الذي قدّمه صباح اليوم الجمعة، في قاعة بولس السادس بحضور الأب الأقدس والكوريا الرومانيّة. وفي تأمله تناول الراهب الكبوشي تجلي الخلاص الشامل في المسيح، "النور الحقيقي" القادر على إنارة وتوجيه تعقيدات الخبرة الإنسانية كافة، وهو نورٌ "لا يمحو تساؤلات الإنسان ورغباته وأبحاثه، بل يربطها ببعضها، وينقيها، ويهديها نحو معنىً أسمى وأشمل". وأشار إلى أن العالم لم يدرك هذا النور لأن "الناس أحبوا الظلمة أكثر"، موضحاً أن المشكلة تكمن في "مدى استعدادنا" لقبول هذا النور الضروري والجميل، ولكنه في الوقت عينه "نورٌ متطلب؛ يكشف الزيف، ويعري التناقضات، ويجبرنا على رؤية ما نفضل التغاضي عنه"، ولهذا السبب نميل إلى تجنبه. ومع ذلك، لفت واعظ القصر الرسولي إلى أن "يسوع لا يضع فاعل الشر في مواجهة فاعل الخير، بل في مواجهة فاعل الحق"، وهذا يعني أن قبول نور التجسد لا يتطلب "أن نكون صالحين أو كاملين مسبقاً، بل أن نبدأ بصنع الحق في حياتنا الخاصة"، أي "أن نكفَّ عن التخفي ونقبل أن نظهر على حقيقتنا، لأن ما يهم الله هو صدقنا لا صلاحنا الظاهري".

وهذا الأمر يعني بالنسبة للكنيسة، "بدء مسيرة من الصدق الأعمق"، لا تهدف إلى "استعراض الطهر الأخلاقي أو ادعاء الاستقامة المثالية"، بل "الظهور بصدق، والإعتراف بمواضع المقاومة والهشاشة". فالعالم لا ينتظر من الكنيسة "مؤسسة بلا شقوق، ولا خطاباً مكرراً يملي ما يجب فعله"، بل "يحتاج إلى أن يلتقي بجماعة تعيش حقاً في نور المسيح رغم نواقصها وتناقضاتها، ولا تخشى أن تُظهر حقيقتها". وضرب الأب بازوليني مثالاً بالمجوس الذين سلكوا طريق الرب بأسلوب فريد، إذ قدموا في مسيرة من بعيد ليؤكدوا أن "قبول نور الميلاد يتطلب مسافة معينة" تسمح لنا برؤية الأشياء بوضوح أكبر، ونظرة أكثر حرية وعمقاً وقدرة على الدهشة. في المقابل، فإن الاعتياد على "النظر إلى الواقع عن قرب شديد" يجعل المرء سجيناً للأحكام الجاهزة والتفسيرات النمطية، وهو خطر يداهم حتى "المقيمين في قلب الحياة الكنسية والمسؤولين عنها"؛ إذ إن الألفة اليومية مع الأدوار والهيكليات والقرارات الملحة قد "تضيق الأفق مع مرور الوقت"، فيفقد المرء القدرة على تمييز "العلامات الجديدة التي يتجلى من خلالها الله في حياة العالم". وبينما نحتفل في الميلاد بدخول النور إلى العالم، يظهر لنا في "عيد الدنح" أن "هذا النور لا يفرض نفسه، بل يترك لنا حرية التعرف عليه"، فهو "يتجلى في تاريخ لا يزال مطبوعاً بالظلمة والبحث"، وهو "حضورٌ يهب نفسه لمن لديه الاستعداد للتحرك". وأكد الراهب الكبوشي أن "نور المسيح يلقاه من يقبل أن يخرج من ذاته ويسير ويبحث"، مشيراً إلى أن هكذا هو الأمر أيضًا بالنسبة لمسيرة الكنيسة؛ إذ "ليس كل ما هو حق ينجلي بوضوح فوراً، وليس كل ما هو إنجيلي يؤتي ثماراً عاجلة". وأحياناً "يطلب الحق منا اتباع خطواته قبل أن نفهمه تماماً".

وفي هذا السياق، استشهد واعظ القصر الرسولي بخبرة المجوس الذين لم يتقدموا "تعضدهم ضمانات أكيدة، بل نجم واهن، لكنه كان كافياً لكي يدفعهم للانطلاق في مسيرة". لقد علمونا أن "لقاء وجه الإله الذي صار بشراً يتطلب المسير"، وهذا الأمر ينطبق على كل مؤمن، لا سيما على أصحاب مسؤوليات الحفظ والقيادة والتمييز؛ فبدون "رغبة متقدة، تتحول أسمى أشكال الخدمة إلى رتابة وانغلاق على الذات". كما اعتبر الأب بازوليني أنَّ النجم الذي قاد المجوس هو علامة على "نداءات الله الخفية في التاريخ"، فالمجوس - الذين لم يعرفوا الكتب المقدسة لكنهم قرأوا السماء - يذكروننا بأن "الله يتحدث أيضاً عبر طرق غير متوقعة، ومن خلال تساؤلات تنبع من ملامسة الواقع". وحذر الأب بازوليني من موقف "هيرودس" الذي أظهر الاهتمام وحسب، لكنه لم يبرح مكانه؛ فهو يمثل "من يريد أن يعرف كل شيء دون أن يعرض نفسه للخطر، فيبقى في مأمن من تبعات المشاركة الحقيقية". ونبه من أننا في الكنيسة قد "نعرف العقيدة جيداً، ونحفظ التقاليد، ونحتفل بالليتورجيا بدقة، ومع ذلك نبقى جامدين"، تماماً مثل "كتبة أورشليم" الذين عرفوا أين يولد المسيح لكنهم لم يجدوا القوة للذهاب إليه في الضواحي وبين الفقراء.

وأكد واعظ القصر الرسولي في هذا السياق أن "الخطوة الأولى للقاء الله هي دائماً النهوض: الخروج من الملاجئ الداخلية والضمانات الشخصية"، مشيراً إلى أن "النهوض يتطلب شجاعة، وتخلياً عن حياة الركود التي تحمينا لكنها تشلنا". وأشار إلى "التواضع والسجود" لدى المجوس؛ فعندما وصلوا سجدوا للطفل: "النهوض ثم الجثو: هذه هي حركة الإيمان. ننهض لنخرج من ذواتنا، ثم ننحني لأننا ندرك أن ما نلتقي به يفوق سيطرتنا". وهذا ينطبق على علاقتنا بالله وبالآخرين، وعلى الكنيسة المطالبة بالتحرك نحو البعيدين، وأيضاً بالقدرة على التوقف وخفض النظر بتواضع أمام سر الله وعمل نعمة الروح القدس.

وثمة جانب أخير يدعو واعظ القصر الرسولي للتأمل فيه: "إذا كان الله قد اختار أن يقيم في جسدنا، فإن كل حياة بشرية تحمل في طياتها نوراً ودعوةً وقيمةً لا تُمحى". وهذا يقودنا إلى استنتاج أننا لم نأتِ إلى هذا العالم لمجرد البقاء أو لتمضية الوقت بأفضل حال ممكنة، بل للولوج إلى حياة أسمى: حياة أبناء الله. لذا، فإن مهمة الكنيسة تكمن في تقديم نور المسيح للعالم؛ لا كشيءٍ يُفرض، بل كحضورٍ يُقدَّم للجميع. وفي هذا السياق، أكّد الأب بازوليني أن "الرسالة لا تكمن في قسر اللقاء، بل في تهيئة سبل حدوثه". فالكنيسة التي تقدّم حضور المسيح للجميع لا تستأثر بنوره لنفسها، بل تعكسه؛ وهي لا تضع نفسها في المركز لتسود، بل لتجتذب القلوب، فتتحول إلى مساحة للقاء يتبين فيها كل إنسان ملامح المسيح، ويستردّ أمام وجهه معنى حياته الخاص. وشدد واعظ القصر الرسولي على ضرورة تغيير الرؤية السائدة حول "العادات الإرسالية"؛ فغالباً ما يُظن أن التبشير يعني أن نقدِّم شيئًا مفقودًا، أو أن نملأ فراغًا، أو أن نُصحِّح خطأ. بيد أن "عيد الدنح" يشير إلى دربٍ مغاير: "مساعدة الآخر على أن يعترف بالنور الذي يسكنه، والكرامة التي يتحلى بها، والمواهب التي يملكها". لذلك فإن "كاثوليكية" الكنيسة تتجلى في "صون حضور المسيح لتقديمه للجميع"، بالثقة بأن الجمال والخير والحق حاضرون في كل إنسان، وينتظرون التحقق والوصول إلى معناهم الأتمّ في المسيح. وختاماً، يرى واعظ القصر الرسولي أن نور الميلاد الحقيقي "يُنير كل إنسان"؛ لأنه قادر على كشف حقيقة كل فرد، ودعوته، وتشبهه بالله.

19 ديسمبر 2025, 13:07